شهد النصف الأول من عام 2025 تقلبات غير مسبوقة في أسواق العملات العالمية، حيث تراجع البوليفار الفنزويلي بأكثر من 50% منذ بداية العام، ليصبح المثال الأوضح على انهيار العملات النقدية. وبعده جاء الجنيه الجنوب سوداني، ثم البيزو الأرجنتيني، يليه الليرة التركية، بينما لم يسلم الدينار الليبي من الضغوط، إذ فقد نحو 9% من قيمته خلال الفترة نفسها.
لكن يبقى السؤال الأهم هنا:
كيف ينهار البوليفار الفنزويلي بهذه السرعة، رغم أن فنزويلا تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم؟ وهل يحمل هذا الانهيار دروسًا يمكن أن تساعد ليبيا على حماية الدينار من مصير مشابه؟
في هذا المقال سنسافر معًا إلى فنزويلا لنفكك أبرز أسباب انهيار عملتها، ونقارنها بواقع الاقتصاد الليبي، لنفهم ما الذي تعنيه لنا هذه التجربة وسط كل هذه التقلبات.
كاراكاس، فنزويلا: من النفط إلى التضخم
في 1 يناير من عام 2025، كان يلزمك 52 بوليفار فنزويلي لشراء دولار أميركي واحد. وبحلول 27 يونيو من نفس العام، تضاعف الرقم ليصل إلى 106 بوليفار لشراء دولار واحد. هذا الانهيار السريع لم يكن مجرد تقلب طبيعي في السوق، بل انعكاس لأزمة اقتصادية أعمق بكثير من مجرد تقلبات في سعر الصرف.
ففي الوقت الذي يتوقع فيه الاقتصاديون تضخم قد يصل إلى 530% بنهاية العام، يجد المواطن الفنزويلي نفسه محاصرًا بين نار الأسعار المستعرة وانهيار الأجور. والسؤال الجوهري هنا: كيف لدولة تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم أن تعيش هذه الأزمة النقدية؟
اقتصاد رهينة للنفط
تعتمد فنزويلا بشكل شبه كامل على النفط، حيث بلغت إيرادات النفط والغاز 90% - 95% من إجمالي الصادرات، والتي تغطي نحو ثلثي ميزانية الدولة. ولذلك، فإن أي تغيّرات في أسعار النفط عالميًا تؤثر مباشرة على العملة والاقتصاد. ولتغطية الثلث الأخير من الميزانية، اعتمدت الحكومة على الأنشطة غير النفطية، كما اتجهت إلى فرض الضرائب على القطاع الخاص، والرسوم على الشركات، وضرائب الاستهلاك كأحد المصادر المهمة لتمويل جزء من ميزانية الدولة. لكن هذه الإيرادات لم تكن كافية ، مما اضطر الحكومة إلى الاقتراض من جهات داخلية أو خارجية. ولعل الخطوة الأخطر هي تمويل هذا العجز عن طريق طباعة العملة، وهو ما أدى بدوره إلى ارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية.
وبسبب هذه السياسات، وصل التضخم على أساس سنوي في أبريل 2025 إلى 229%، وسط توقعات بوصوله إلى 530% مع نهاية العام. مما ينعكس على الحياة اليومية للمواطن الفنزويلي. مثلًا: أسعار السلع اليومية تضاعفت بشكل صادم: كيلو اللحم البقري قفز من 4 دولارات إلى حوالي 8 دولارات. هذا التضخم أدّى، بطبيعة الحال، إلى تآكل أجور الموظفين الحكوميين، حيث أفادوا بأن رواتبهم فقدت نحو 70% من قيمتها الحقيقية منذ بداية العام.
ما الدرس المستفاد من قصة البوليفار الفنزويلي؟
تكشف القصة الفنزويلية أن امتلاك الموارد الطبيعية الهائلة، بما فيها النفط، لا يضمن حماية العملة أو ضمان الاستقرار الاقتصادي، فغياب التنويع وضعف الثقة في المؤسسات والسياسات النقدية غير المنضبطة عوامل دفعت بالبوليفار إلى حافة الانهيار الكامل. في ليبيا، قد لا نعيش الأزمة نفسها التي تعاني منها فنزويلا المحاصَرة بعقوبات أمريكية وأوروبية، غير أن التشابه في البنية الاقتصادية يفرض علينا الحذر.
فقد فرضت الولايات المتحدة على فنزويلا سلسلة من العقوبات الاقتصادية بدأت بتصنيفها كدولة غير متعاونة في مكافحة الإرهاب والمخدرات، ثم استهدفت شخصيات بارزة في الحكومة متهمة بالفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، قبل أن تتوسع في أغسطس 2017 لتشمل أول عقوبات اقتصادية كبرى حرمت الحكومة من الوصول إلى أسواق المال الدولية ومنعت شراء السندات الجديدة الصادرة عنها أو عن شركة النفط الوطنية PDVSA.
وفي يناير 2019، جاءت الضربة الأقوى حين فرضت واشنطن عقوبات مباشرة على الشركة نفسها، مانعةً الشركات الأمريكية من شراء النفط الفنزويلي، وهو ما شكّل صدمة لاقتصاد يعتمد بشكل شبه كامل على السوق الأمريكية. وتواصلت العقوبات في عام 2020 لتشمل تجميد الأصول الحكومية وفرض قيود مالية على التعاملات الدولية ومنع سفر كبار المسؤولين.
ليبيا: هشاشة شبيهة رغم الفارق
صحيح أن ليبيا لا تعيش أزمة بحجم أزمة فنزويلا، لكنها تشترك معها في نقاط أساسية ، لعل أبرزها هو الاعتماد على النفط. فحسب تقرير للبنك الدولي يمثل النفط أكثر من 95% من إيرادات الدولة الليبية، وقرابة 60% من الناتج المحلي الإجمالي. لذلك، أي هبوط في أسعار النفط أو تعطل الإنتاج (بسبب اضطرابات سياسية أو إغلاق الموانئ) ينعكس فورًا على الميزانية والعملة. إضافةً إلى ذلك، احتلت ليبيا في عام 2024 المرتبة السادسة ضمن أكثر الدول فسادًا في العالم (CPI = 13)، في حين جاءت فنزويلا في المرتبة الثالثة (CPI = 10)، وذلك وفقًا لتصنيف منظمة Transparency International، ويُعزى جزء كبير من هذا الفساد إلى سوء إدارة عائدات النفط والعملة، حيث أدى التحكم بالعملة والتهريب إلى تعميق الأزمات الاقتصادية وتدهور الأوضاع المعيشية.
ففي الوقت الذي تشهد فيه ليبيا انقسامًا سياسيًا، يؤثر على استقرار الدينار الليبي، فإن وجود مؤسسات نقدية ومالية مزدوجة أضعف الثقة وأدى إلى تشتت السياسات الاقتصادية. إضافة لذلك، يشكل غياب بدائل قوية غير نفطية لتغطية العجز في الميزانية اضطرارًا للجوء إلى السحب من الاحتياطيات، أو لطباعة المزيد من النقود (Monetary Financing)، مما يهدد استقرار الدينار الليبي على المدى الطويل.
في يوليو 2024 نشر مصرف ليبيا المركزي تقريره النصف سنوي، والذي أشار فيه بأن التضخم السنوي في ليبيا بلغ 1.8%، ورغم أن معدلات التضخم في ليبيا لم تصل إلى مستويات التضخم في فنزويلا، فإنها تتأثر مباشرة بارتفاع أسعار الاستيراد وضعف العملة في السوق الموازي. موقع IMF للمعلومات عن ليبيا يُقدّر أن “أسعار المستهلك” (النمو في أسعار الاستهلاك) في 2025 من المتوقع أن تكون حوالي 2.3٪ في ليبيا. (تابع أيضًا: تقرير مصرف ليبيا المركزي للنصف الأول 2024)
أوجه الاختلاف بين ليبيا وفنزويلا
الاقتصاد الليبي أصغر بكثير من الفنزويلي، ما يجعل آثار الصدمات أسرع وأوضح. لكن على عكس فنزويلا، ليبيا ليست تحت عقوبات اقتصادية خانقة، وهذا يمنحها قدرة أفضل على الوصول للأسواق العالمية. كما أن الدينار الليبي تراجع بنحو 9% في النصف الأول من 2025، لكنه لم يدخل بعد في دوامة الانهيار مثل البوليفار. الجدول التالي يوضح أكثر العملات تراجعًا في عام 2025:

Top Currency drops 2025
الدروس لليبيا من تجربة فنزويلا
أكبر ما تكشفه التجربة الفنزويلية هو أن الاعتماد على النفط وحده وصفة مؤكدة للهشاشة الاقتصادية، وأن تنويع مصادر الدخل بات ضرورة ملحّة.
لعل الاستثمار في قطاعات أخرى مثل الزراعة والسياحة والطاقات المتجددة يمكن أن يشكّل صمام أمان يحمي البلاد من تقلبات أسعار النفط وأزماته. وفي الوقت نفسه، فإن السياسات النقدية الشفافة تُعتبر ركيزة أساسية لبناء الثقة؛ فحجب البيانات أو طباعة النقود دون غطاء يؤدي حتمًا إلى فقدان الثقة في العملة والاقتصاد، وهو ما يجعل توحيد البنك المركزي الليبي والتزامه بالشفافية ضرورة لا خيارًا.
أما على الصعيد السياسي، فإن الانقسام القائم يضاعف من حدة الأزمة الاقتصادية، ولا يمكن الحديث عن أي إصلاح اقتصادي حقيقي من دون توحيد المؤسسات واستعادة الاستقرار.
وأخيرًا، تبقى الإدارة الذكية للاحتياطيات المالية عاملًا حاسمًا، إذ لا ينبغي استنزافها، بل توظيفها بشكل مدروس لجذب الاستثمارات وبناء اقتصاد متنوع قادر على الصمود أمام التحديات.
ختامًا: الدينار الليبي… هل يتجنب لعنة البوليفار؟
تُظهر فنزويلا أن الثروة النفطية وحدها لا تكفي لحماية العملة أو ضمان الاستقرار الاقتصادي. ليبيا، رغم اختلاف الظروف، تواجه نفس المخاطر إذا لم تتحرك بسرعة لإصلاح اقتصادها. الدينار الليبي قد لا يكون اليوم في وضع البوليفار، لكنه قد يواجه نفس المصير إذا لم نتعلم من التجربة الفنزويلية.
مراجعة وتحرير: د. عبد المجيد بن دلة – أحمد سيالة




