logo
تحميل التطبيق
English
logo
العودة إلى المدونة
16 نوفمبر 2025

طريق الحرير الجديد: هل هي فرصة لليبيا؟

مالك سيالة
مالك سيالة
طرابلس، ليبيا
طريق الحرير الجديد: هل هي فرصة لليبيا؟

قبل أكثر من ألفي عام، كان التجار يجوبون آلاف الكيلومترات ليربطوا بين شرق العالم وغربه عبر العالم العربي، عابرين في رحلاتهم بعضًا من أقسى التضاريس على وجه الأرض. اجتازوا خلالها صحراء غوبي الممتدة عبر جنوب منغوليا وشمال الصين، وتسلقوا جبال بامير الشاهقة المعروفة بـ "سقف العالم"، عند التقاء حدود طاجيكستان وأفغانستان والصين وقرغيزستان.

ذلك الطريق، الذي امتدّ لنحو 6,437 كيلومترًا (قرابة 4,000 ميل)، عُرف لاحقًا باسم طريق الحرير. لم يكن مجرد ممرّ تجاري، بل شريانًا نابضًا تنقلت عبره البضائع والثقافات والأفكار، وحمل التجار على متنه سلعًا ثمينة ومتنوعة؛ أبرزها الحرير الصيني الذي زيّن ملابس الملوك والنبلاء في أوروبا، ومن هنا جاءت التسمية. كما نُقلت من آسيا الأحجار الكريمة والخزف والشاي والتوابل، فيما تدفقت نحو الشرق الخيول والسلع الزجاجية من قوارير ودوارق، والمنسوجات والمنتجات الصناعية.

ولم تقتصر الحركة على السلع؛ إذ سارت الأفكار الدينية والعلمية والفنية جنبًا إلى جنب مع القوافل، فنُقلت مع المتاع البوذية والطب الصيني وفنون العمارة والكتابة، مما جعل الطريق جسرًا حقيقيًا لتبادل المعرفة بين الشعوب.

وخلال العصور الذهبية للحضارة الإسلامية، بين القرنين الثامن والرابع عشر، لعب التجار والعلماء العرب دورًا محوريًا في تنشيط هذا الطريق وازدهاره. فقد كانت بغداد ودمشق والقاهرة مراكز رئيسية للتبادل التجاري والثقافي والمعرفي، بينما شكّلت الموانئ العربية على البحر الأحمر والخليج العربي نقاط وصل استراتيجية بين الشرق الأقصى وأوروبا.

وبفضل هذا الطريق، ازدهرت حضارات كبرى مثل الصين والهند وفارس والعالم الإسلامي، وبرزت مدن تجارية شهيرة مثل سمرقند وبخارى والبصرة والإسكندرية التي تحوّلت إلى مراكز عالمية للتجارة والعلم والثقافة.

ولادة جديدة لطريق الحرير

بعد أكثر من ألفي عام على ازدهار طريق الحرير القديم، تعود الصين في القرن الحادي والعشرين لتُحيي إرثه، ولكن بروح مختلفة ولغة جديدة، لغة الاستثمار والبنية التحتية والتكامل الاقتصادي. ففي عام 2013، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ إطلاق مبادرة "الحزام والطريق" (Belt and Road Initiative)، التي تُعد أحد أكثر المشاريع طموحًا في العصر الحديث.

تهدف هذه المبادرة إلى إحياء طريق الحرير القديم بصيغة عصرية تعتمد على التجارة والطاقة والتكنولوجيا والبنية التحتية الحديثة. ومنذ ذلك الحين، تحوّلت المبادرة إلى ركيزة أساسية في السياسة الخارجية الصينية، متجاوزة البعد الاقتصادي نحو إعادة تشكيل موازين القوى العالمية عبر إنشاء شبكة مترابطة من الممرات البرية والبحرية التي تربط آسيا بأوروبا وأفريقيا ضمن منظومة تجارية واستثمارية موحدة.

وقد انضمت للمبادرة حتى اليوم أكثر من 150 دولة، ما يجعلها أضخم مشروع تنموي في التاريخ الحديث من حيث عدد المشاركين وحجم التمويل. وتُقدَّر تكلفتها بنحو 1.4 تريليون دولار، أي ما يعادل 12 ضعف خطة مارشال التي أطلقتها الولايات المتحدة لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

أهمية الشرق الأوسط في مبادرة الحزام والطريق

يُعدّ الشرق الأوسط من أكثر المناطق حيوية واستراتيجية بالنسبة للصين بفضل موقعه الجغرافي الفريد عند مفترق ثلاث قارات كبرى: آسيا وأفريقيا وأوروبا. وتشكل هذه القارات مجتمعة الأساس الجغرافي لمبادرة الحزام والطريق، التي تسعى الصين من خلالها إلى ربط العالم بشبكة واسعة من الممرات البرية والبحرية والتجارية.

وتنبع أهمية المنطقة كذلك من كونها محورًا رئيسيًا لإمدادات الطاقة العالمية؛ إذ تمر عبرها أبرز طرق نقل النفط والغاز التي تعتمد عليها الصين لتلبية احتياجاتها المتزايدة، كما تمثّل دول الشرق الأوسط أسواقًا واعدة للصين من حيث الموارد الطبيعية وفرص الاستثمار طويلة الأجل، فضلًا عن كونها بوابة استراتيجية نحو أسواق أوروبا وأفريقيا وجنوب آسيا.

وتشير دراسات اقتصادية عديدة إلى أن بكين تعمل على تعزيز حضورها الاقتصادي والدبلوماسي والاستراتيجي في المنطقة، من خلال الاستثمار في البنية التحتية والطاقة المتجددة والتكنولوجيا والاتصالات. وقد بلغ إجمالي الاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط منذ عام 2013 نحو 240 مليار دولار أمريكي، تركزت بشكل خاص في قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات في دول مثل السعودية والإمارات ومصر وقطر وإيران.

ولا تخدم هذه الشراكات المصالح الصينية وحدها، بل تُسهم أيضًا في دعم جهود دول المنطقة لتنويع اقتصاداتها وتعزيز الاستقرار وتحقيق التنمية المستدامة، خصوصًا في ظل التحولات الاقتصادية التي تشهدها مرحلة ما بعد النفط. ويتميز الشرق الأوسط كذلك بقربه من أربعة ممرات بحرية إستراتيجية: البوسفور، والدردنيل، وباب المندب، ومضيق هرمز، وهي شرايين بحرية تمر عبرها نسبة كبيرة من التجارة الصينية العالمية. وبذلك، تُعد المنطقة حلقة محورية في المشروع الصيني الطموح لإعادة رسم خريطة التجارة الدولية وربط الشرق بالغرب ضمن رؤية اقتصادية عالمية متكاملة.

أفريقيا في قلب الطريق الجديد

تُعدّ أفريقيا إحدى المحطات المحورية في مبادرة الحزام والطريق، إذ تنظر الصين إلى القارة باعتبارها سوقًا واعدة ومحركًا محتملًا للنمو العالمي. وقد تجاوز إجمالي الاستثمارات الصينية في أفريقيا 300 مليار دولار منذ عام 2005، توزّعت بين مشروعات البنية التحتية والطاقة والاتصالات والنقل.

في إثيوبيا، موّلت الصين مشروع سكة حديد أديس أبابا - جيبوتي بقيمة تفوق 4 مليارات دولار، مما ساهم في تقليص زمن نقل البضائع وتعزيز الربط التجاري الإقليمي. وفي مصر، ضخّت الشركات الصينية استثمارات كبيرة تقدّر بأكثر من 10 مليارات دولار في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس ومشروعات الطاقة المتجددة. أما في كينيا، فيبرز مشروع الخط الحديدي مومباسا - نيروبي بتكلفة 3.6 مليارات دولار، كأحد أهم مشاريع المبادرة في شرق أفريقيا.

ومع هذا التدفق الاستثماري الكبير، تشير تقارير البنك الدولي إلى أن نحو 22 دولة أفريقية تواجه ضغوطًا متزايدة تتعلق بالدَّين الخارجي، بما في ذلك الديون المرتبطة بالقروض الصينية. وقد فتح ذلك نقاشًا دوليًا متزايدًا حول سبل إدارة التمويل الخارجي، ومن ضمنه التمويل الصيني، بما يضمن الاستدامة المالية على المدى الطويل.

ورغم هذه التحديات، يرى عدد من الخبراء أن المشاريع الصينية تمثل فرصة تنموية مهمة للدول الأفريقية، شريطة دمجها ضمن استراتيجيات واضحة للبنية التحتية والنمو الاقتصادي، وبما يضمن تحقيق أقصى استفادة من هذه الاستثمارات الضخمة.

آليات التمويل: القوة الصامتة للصناديق السيادية الصينية

تعتمد مبادرة الحزام والطريق على قوة مالية ضخمة مصدرها الصناديق السيادية الصينية، وفي مقدمتها:

  • جهاز الاستثمار الصيني (CIC)

  • شركة SAFE Investment

يدير هذان الكيانان أصولًا تفوق 2.4 تريليون دولار، تُستخدم لتمويل مشروعات البنية التحتية والسكك الحديدية والموانئ ومشروعات الطاقة النظيفة في مختلف القارات. ضخت هذه الصناديق في أفريقيا مليارات الدولارات ضمن مشاريع مبادرة الحزام والطريق، لتمويل الطرق والموانئ ومحطات الطاقة في أكثر من 40 دولة، لتصبح الصين المستثمر الأول في القارة، متقدمة على الاستثمارات الغربية بمقدار 2.5 مرة.

هذه الأرقام تكشف عن بُعد استراتيجي واضح: فالصين لا تموّل فقط مشاريع تجارية، بل تؤسس لشبكة اقتصادية عابرة للقارات تضمن لها نفوذًا طويل الأمد على الممرات الحيوية للتجارة والطاقة.

بين التعاون الدولي وفرص النمو… أين تقف ليبيا؟

بعد مرور أكثر من عقد على إطلاق مبادرة الحزام والطريق، بات واضحًا أنها أصبحت جزءًا أساسيًا من التحول الاقتصادي العالمي. فهي تجمع بين الاستثمار في البنية التحتية، وتطوير الموانئ والطرق، وتعزيز الروابط التجارية بين الشرق والغرب. وبينما ينظر البعض إليها باعتبارها مشروعًا تنمويًا واسعًا، يراها آخرون إطارًا يرسخ دور الصين المتصاعد في الاقتصاد العالمي.

أما بالنسبة لليبيا، فالموقع الجغرافي على البحر المتوسط، وامتلاكها لموانئ عديدة قبالة الساحل الأوروبي، إضافة إلى وفرة الموارد الطبيعية، كلها عناصر تجعلها قادرة على الاستفادة من التحولات الاقتصادية العالمية. ولا يتعلق الأمر بالانضمام للمبادرة بحد ذاتها، بل بمدى قدرة ليبيا على استثمار موقعها ومواردها لبناء شراكات متوازنة تدعم النمو، وتُسهم في تنويع الاقتصاد، وتفتح آفاقًا جديدة للتجارة والخدمات اللوجستية.

وهكذا يبقى السؤال مطروحًا، ما إذا كانت ليبيا ستنجح في تحويل موقعها الجغرافي إلى مكاسب اقتصادية؟

مراجعة وتحرير: د. عبد المجيد بن دله